عزيزتي سارة
أود أن أحادثك اليوم عن الخوف يا سارة ، ليس
الخوف العادي من حدث مؤذي ، بل تلك الشجرة الخبيثة من المخاوف التي ليس لها جذور ،
إنما فروع و غصون تمتد حتى الحلقوم .
مات هيثم أحمد زكي ، ليفجع العالم برحيله ،
وأظن قدر لا يستهان به من هذه الفجيعة ، إنما هو فجيعة في مدى الوحدة التي يمكن أن
يصاب بها أي منهم.
يحتمي الناس من الوحدة بشتى الطرق ، ترعبهم
الفكرة ، وتدفعهم أحيانًا لعلاقات مؤذية واستنزافية .
حسنًا ، جربت الوحدة يا سارة ، والعديد من
احتمالاتها ،وليست مرعبة حقُا بصدق .
فكرة أن يموت المرء وحيدًا بلا أشخاص حوله ،
تبدو موحشة ، ولا تبدو برومانسية فكرة جاك بطل تيتانيك عن الموت دافئًا في سرير
تلتف حوله أبناء وأسرة محبة . لكن يا صديقتي ، في لحظة الموت أظن الصحبة الوحيدة
الحقيقية حينها تكون لملك الموت.
لأمي أربعة أبناء محبين ، لكنها ماتت
بالعناية المركزة وحيدة ، لابن خالي –أخي الأصغر الحبيب- عائلة كبيرة محبة جدًا ،
وأصدقاء ممتنون ، ولكن نال نفس النهاية .
لجدي وجدتي إحدى عشر من الأبناء ، لم تكن لحظاتهم الأخيرة بصحبتهم أجمعين .
الموت هو الموت ، لا يوجد ميتة دافئة و أخرى
باردة ، الفارق فيما قبلها ، أما مابعدها فهي رحمة الله وفضله إن شاء الله .
أما ما قبلها ، فإني بالطبع لم أشاهد لقاءات
الراحل هيثم رحمه الله ، إلا أننى تابعت مقالات نورا ناجي المبهرة في تفاصيلها
وإحساسها عن الكاتبات والوحدة .
كان هذا مرعبًا قليلًا ، لا أنكر ، لا أصنف
نفسي كاتبة كما تعرفين ، أنا أحب الكتابة ، وأحيا بها . وجدت بعضًا مني في كل مقال
، في كل شخصية .
حتى مي زيادة التي لا تروقني ، وجدتني أشفق
عليها .
حتمًا لنورا اليد العليا في هذا الإحساس ، في
تقديمها هذا المزيج من الحياة الإنسانية ، والمشاعر بالقدر الذي يحفز الإنسانية
بداخلك فوق كل رفض .
لكن أربكتني ، جعلتني أتساءل حول ماهية
الوحدة التي أشتهيها ، والتي جعلتها جزء أصيل من حياتي ، وبين الوحدة الكريهة
المؤلمة ، التي تحطم الروح ، وتحبسها داخل قفص شفاف ، لا يري النور حقًا، ولا يعيش
في ظلام حقيقي .
اعتدت أن يقولبني من حولي – لا بأس- ، حتى يستطيعوا التعامل معي ، ورغم إدراكي
الكامل أنني لا أنتمي لهذا القالب ، كنت أصمت ، وأحاول بناء جسر من التواصل يسمح
بالمودة ، و يمنع الالتحام ، أحب أن أبقى على مسافة تسمح بالرؤية ،وتحمي الحدود
المشتركة قدر الإمكان .
هذا جزء أصيل من وحدتي ، معرفتي أنه لا أحد - تقريبًا -يراني حقًا كما أنا ، ويجعلني جزئيًا
أتسائل ، هل تصبح المودة حقيقية وصادقة عندما يدركوا أني لا املأ ذلك القالب
تمامًا ؟ يلقبني بعض أحبتي بالملاك ، وحتمًا لست ملاكًا ، فهل يظل الحب عندما
يدركوا نقيصتي؟
فقد الأحبة مرعب يا سارة ، كطائر الرخ ينهش
قلبي طوال النهار ، لينمو ليلًا ، ليعاود تمزيقه الصبح . هذا هو الفقد بالنسبة لي
.
يمكنني أن أعيش وحيدة ، وأعرف كيف أسعد نفسي
وحدي ، جربت ذلك .
أجيد ضخ الحيوية في كل ركن ، تهذيبه من
الوحشة ومنحه قبلات الحياة ، لأصنع بيت دافيء.
لكن حتمًا هذا لا يعني استغنائي عن حب أحبتي
لي ، لا يعني أني لا أود أن أنعم بنزهة لطيفة على البحر مع أصدقائي ، و لا أني لا
أحتاج اخوتي حولي ، ولا حتى أني قد أقايض بضع ساعات مع أبناء إخوتي بملء الأرض كتب
. – بالطبع تعرفين حجم الإغراء !
لن تمنحنا الحياة
كل الفرص التي نريدها ، ولا كل السعادة التي نتمناها . مجبرين على مفاضلات ، ومفاوضات
ومساومات لننال بعض ما نحبه ، في مقابل تنازل عن حب آخر ، أو قبول ما نكره وننفر منه
.
و قد اخترت قدر الوحدة المناسب لي ، مع تبعاته من
الاتهامات المختلفة ، بكل الحب .
ويبدو أن
شجرتي المرعبة ، عمادها الفقد ، و معول هدمها هو الحب على كل علاته .
0 Responses to "إلى سارة ..عن الخوف والوحدة ..والفقد .":
إرسال تعليق